معرفة

جمال الدين الأفغاني يكتب: أثر العقائد الدينية في تقدم البشرية

ثلاث عقائد يكسبها الدين البشر، تحثهم على التقدم إلى غايات الكمال، وترقيهم إلى ذرى السعادة، وتباعد نفوسهم عن الشر والفساد، وتصدها عن مقاربة ما يبيدها ويبددها.

future اجتماع مجلس علم في أحد المساجد

— نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة العربي في 1 مايو 1977

اكسب الدين عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال كل منها ركن لوجود الأمم، وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدينتها، وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال، والرقي إلى ذرى السعادة، ومن كل واحدة وازع قوي يباعد النفوس عن الشر، ويزعها عن مقارفة الفساد، ويصدها عن مقاربة ما يبيدها ويبددها.

العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضي، وهو أشرف المخلوقات.

الثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل.

والثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال من دار ضيقة الساحات، كثيرة المكروهات، جديرة أن تسمى بيت الأحزان وقرار الآلام، إلى دار فسيحة المساحات، خالية من المؤلمات لا تنقضي ساعدتها، ولا تنتهي مدتها.

آثار العقائد في حياة البشر

لا يغفل العاقل عما تتسع له هذه العقائد الثلاث من الآثار الجليلة في الاجتماع البشري، والمنافع الجمة في المدنية الصحيحة، وما يعود منها بالإصلاح على روابط الأمم، وما لكل واحدة من الدخل في بقاء النوع، والميل بأفراده لأن يعيش كل منهم مع الآخر بالمسالمة والموادعة، والأخذ بهمم الأمم للصعود في مراقي الكمال النفسي والعقلي. من البين أن لكل عقيدة لوازم وخواص لا تزايلها.

فمما يلزم الاعتقاد بأن الإنسان أشرف المخلوقات — ترفع المتعقد بحكم الضرورة عن الخصال البهيمية، واستنكافه عن ملابسة الصفات الحيوانية. ولا ريب أنه كلما قوي الاعتقاد اشتد به النفور من مخالطة الحيوانات في صفاتها، وكلما اشتد هذا النفور سما بروحه إلى العالم العقلي، وكلما سما عقله أوفى على المدنية، وأخذ منها باقي الحظوظ، حتى قد ينتهي به الحال إلى أن يكون واحدا من أهل المدينة الفاضلة، يحيا مع إخوانه الواصلين معه إلى درجته على قواعد المحبة، وأصول العدالة، وتلك نهاية السعادة الإنسانية في الدنيا، وغاية ما يسعى إليه العقلاء والحكماء فيها.

فهذه العقيدة أعظم صارف للإنسان عن مضرعة الحمر الوحشية في معيشتها، والثيران البرية في حالتها، ومضاربة البهائم السائحة، والدواب الهاملة، والهوام الراشحة التي لا تستطيع دفع مضرة، ولا التقية من عادية، ولا تهتدي طريقا لحفظ حياتها، وتقضي آجالها في دهشة الفزع ووحشة الانفراد.

وهذه العقيدة أحجى حادّ للفكر في حركاته، وأنجح داعٍ للعقل في استعمال قوته، وأقوى فاعل في تهذيب النفوس وتطهيرها من دنس الرذائل.

إن شئت فارمِ بنظر العقل إلى قوم لا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل يظنون أن الإنسان حيوان كسائر الحيوانات، ثم تبصر ماذا يصدر عنهم من ضروب الدنايا والرذائل، وإلى أي حد تصل بهم الشرور، وبأي منزلة من الدناءة تكون نفوسهم، وكيف أن السقوط إلى الحيوانية يقف بعقولهم عن الحركات الفكرية.

ومن خواص يقين الأمة بأنها أشرف الأمم، وجميع من يخالفها على الباطل — أن ينهض آحادها لمكاثرة الأمم في مفاخرها، ومساماتها في مجدها، ومسابقتها في شرائف الأمور وفضائل الصفات، وأن يتفق جميعها على الرغبة في فوز جميع الأمم، والتقدم عليها في المزايا الإنسانية، عقلية كانت أو نفسية، ومعاشية كانت أو معادية، وتأبى نفس كل واحد عن إعطاء الدنية، والرضا بالضيم لنفسه أو لأحد من بني أمته، ولا يسره أن يرى شيئا من العزة أو مقاما من الشرف لقوم من الأقوام، حتى يطلب لأمته أفضله وأعلاه؛ ذلك أنه بهذا الاعتقاد يرى أبناء قومه أليق وأجدر بكل ما يعد شرفا إنسانيا.

فإن جارت صروف الدهر على قومه فأضرعتهم، أو ثلمت مجدهم، أو سلبتهم مزية من مزايا الفضل — لم تستقر له راحة، ولم تفتأ له حمية، ولم يسكن له جيشان، فهو يمضي حياته في علاج ما ألم بقومه حتى يآسوه أو يموت في أساه.
فهذه العقيدة أقوى دافع للأمم إلى التسابق لغايات المدنية، وأمضى الأسباب بها إلى طلب العلوم، والتوسع في الفنون، والإبداع في الصنائع، وإنها لأبلغ في سوق الأمم إلى منازل العلاء ومقاوم الشرف من غالب قاسر ومستبد قاهر عادل.

وإن أردت فالمح بعقلك حال قوم فقدوا هذا اليقين: ماذا تجد من فتور في حركات آحادهم نحو المعالي؟ وماذا ترى من قصور في هممهم عن درك الفضائل؟ وما ينزل بقواهم من الضعف؟ وماذا يحل بديارهم من الفقر والمسكنة؟ وإلى أي هوة يسقطون من الذلة والهوان، خصوصا إذا بغى عليهم الجهل فظنوا أنهم أدنى من سائر الملل.

ومن مقتضيات الجزم بأن الإنسان ما ورد هذا العالم إلا ليتزود منه كمالا يعرج به إلى عالم أرفع، ويرتحل به إلى دار أوسع، وجناب أمرع، ليمرع واديه — إن من أشربت هذه العقيدة قلبه ينبعث بحكمها، وينساق بحاديها لإضاءة عقله بالعلوم الحقة والمعارف الصافية، خشية أن يهبط به الجهل إلى نقص يحول دون مطلبه، ثم ينصرف همه لإبراز ما أودع فيه من القوة السامية والمدارك العقلية، والخواص الجليلة، باستعمالها فيما خلقت له، فيتجلى كماله من عالم الكمون إلى عالم الظهور، ويرتقي من درجة القوة إلى مكانة الفعل؛ فهو ينفق ساعاته في تهذيب نفسه وتطهيرها من دنس الرذائل، ولا يناله التقصير في تقويم ملكاته النفسية، وينزع لكسب المال من الوجوه المشروعة، متنكبا عن طريق الخيانة ووسائل الكذب والحيلة، معرضا عن أبواب الرشوة، مترفعا عن الملق الكلبي، والخداع الثعلبي، ثم ينفق ما كسب في الوجه الذي يليق، وعلى الوجه الذي ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، لا يأتي فيه باطلا ولا يغفل حقا عاما أو خاصا.

أهدى قائد للإنسان

فهذه العقيدة أحكم مرشد، وأهدى قائد للإنسان إلى المدنية الثابتة المؤسسة على المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة، وهذا الاعتقاد أشد ركن لقوام الهيئة الاجتماعية التي لا عماد لها إلا معرفة كل واحد حقوقه وحقوق غيره عليه، والقيام على صراط العدل المستقيم.

هذا الاعتقاد أنجح الذرائع لتوثيق الروابط بين الأمم، إذ لا عقد لها إلا مراعاة الصدق، والخضوع لسلطان العدل في الوقوف عند حدود المعاملات.

هذا الاعتقاد نفحة من روح الرحمة الأزلية، تهب على القلوب ببرد الهدوء والمسالمة؛ فإن المسالمة ثمرة العدل والمحبة، والعدل والمحبة زهر الأخلاق والسجايا الحسنة، وهي غراس تلك العقيدة التي تحيد بصاحبها عن مضارب الشرور، وتنجيه من متائه الشقاء وتعاسة الجد، وترفعه إلى غرف المدينة الفاضلة، وتجلسه على كرسي السعادة.

وقد يسهل عليك أن تتخيل جيلا من الناس حُرم هذه العقيدة: فكم يبدو لك فيه من شقاق وكذب ونفاق وحيل وخداع ورشوة واختلاس؟ وكم يغشى نظرك من مشاهد الحرص والشرة، والغدر والاغتيال، وهضم الحقوق والجدال والجلاد؟ وكم تحس فيه من جفاء للعلم وعشوة عن نور المعرفة؟

# دين

هذه النص مقتبس من رسالة «الرد على الدهريين» وقد ألفه السيد باللغة الفارسية سنة 1296هــ (1879)م وقد ترجم الرسالة إلى العربية تلميذه الأستاذ الإمام محمد عبده بمساعدة تابعه عارف أبي تراب الأفغاني
الدليل على ضرورة النبوة للإنسان عند فلاسفة الإسلام
تفكيك المفهوم الغربي للدين: أطروحة طلال أسد حول الإسلام والحداثة العلمانية
17 رمضان يوم الاتحاد والجهاد والنصر

معرفة